مَنْشأُ مُعظَمِ مشاكلِ البَشريَّةِ والنزاعاتِ والعداواتِ عبرَ التاريخ هو غيابُ الحِوار، واعتمادُ مبدأِ الرَّأيِ الواحد، وعدمُ الاستماعِ للآخر، ومن هنا تَنشَأُ كذلك مُعظَمُ المشاكلِ العائليَّةِ والخلافاتِ الأسَريَّة، وهو نفْسُه الخطأُ الذي يَقَعُ فيه الآباءُ عندَ التَّحدُّثِ مع أبْنائِهم وتربيَّتِهم وتوجِيهِهم، حيثُ تَجدُ الآباءَ يَتعاملون من مُنْطلَقِ السُّلطَةِ ووُجُوبِ الطَّاعةِ والتَّنفيذِ، من دُون مُناقَشةٍ أو مُحاوَرة، مما يُخلِّفُ فَجْوةً بين الآباءِ والأبناء، تُؤدِّي في الأخيرِ إلى تَمرُّدِ الأبْناءِ على آبائِهم، وهَجْرِ البيتِ أو الانْحراف، وغيرِ ذلك من أشكالِ التَّمرُّدِ على هذا النَّمَطِ السُّلطوِيِّ في التَّربيَّة، وتَجنُّبًا لمثلِ هذا المصير، سنُحاوِلُ تَعريفَكم الآنَ على سُبلِ الحِوارِ الفعَّالِ مع الأبناء، من خلالِ نِقاطٍ أرْبعَةٍ:
- إتاحَةُ فرصةٍ للتَّعبير: ما دُمتَ تَمنعُ أبناءَك من الحديثِ وطرحِ أفكارِهم والتَّعبيرِ عن آرائِهم، فإنك لن تَتمكَّنَ من فهمِهم، ولن تَعرفَ طموحاتِهم واهتِماماتِهم، بل ولن تَعلمَ حتى بالمشاكلِ التي يَتعرَّضُون لها، وبالتالي فإنك في الغالبِ لن تَتَّخذَ قراراتٍ صائِبةً فيما يَتعلَّقُ بحياتِهم ومُستقْبَلِهم، ولن تَستطيعَ التَّدخُّلَ في الوقت المناسبِ لتحُلَّ مشاكلَهم، فعلى الأبويْن أن يُتِيحَا لأبنائِهما مساحَةً أكبرَ للتَّعبيرِ والحديثِ لبِناءِ جِسْرٍ من الثِّقةِ والتَّفاهُم بينَهم.
- حُسنُ الاستماع: ومن أجلِ مُساعدَةِ أبنائِك على الإفْصاحَ لك عَمَّا يَشعرونَ به ويَرغَبونَ فيه، وما يَخافونَه أو يَتعرَّضون له من إِساءَة، عليك أن تَتحلَّى بصِفةِ المستَمعِ الجيِّد، وأن تُتقِنَ مَهارَةَ الإنْصاتِ باهتِمامٍ وتَمعُّن، وألا تُقاطِعَهم أثْناءَ الحديث، كما يَنبَغي أن تَتفاعَلَ مع مَضمُون حديثِه بِبعْضِ التَّعابيرِ والحرَكات، ليَشعُرَ باهتمامِك وتفهُّمِك لمشاعِرِه وأفْكارِه.
- الابتعادُ عن الأحكامِ المسْبَقة: لا تُحاوِرْ أبناءَك من مُنطلَقِ أنَّهم أطفالٌ صِغارٌ لا يَعرفون شيْئًا، ولا يَفهَمون حقيقةَ الأمور، وأنَّهم قَلِيلُو الخبْرةِ والتَّجرِبَة، وأنَّ أفكارَهم خاطئَةٌ ولا حاجةَ لمناقَشتِها، يَنبغِي أن تَبتَعِدَ عن مثلِ هذه الأفكارِ المسبَقة، وأن يَكون عندَك استعدادٌ لتقَبُّلِ آرائِهم، وأخذِ أفكارِهم بعيْنِ الاعتِبار، ولا بَأسَ بأن تُخالِفَه الرَّأي، ولكن يَنبغي أن تُبيِّنَ له سَببَ اختلافِك معه، وأن تَشرَحَ له وِجهَةَ نَظرِك، وأن تَطْلُبَ منه التَّعليقَ عليها، ولا تَسْتخِفَّ بأفكارِه، ولا تَرفُضْها جُملةً واحدةً من غيرِ تَفسير، لأنَّك بذلك لا تُحاوِر، بل تَأمُرُ وتَفرِضُ سُلطةً فقط، وتُحاولُ التَّغطِيَّةَ على ضَعفِ قُدراتِك في الشَّرْحِ والإقْناع، بِسلْطةِ الأبِ والأم، ولا يَكونُ الحِوارُ مُجْديا في مثلِ هذه الحالة.
- المصاحَبةُ منْذ الصِّغر: إنَّ الحِوارَ الجيِّدَ أساسُهُ الفهمُ العميق، والمعرفةُ الواسِعةُ بالطَّرفِ الآخر، ومن هنا يَنبَغي على الآباءِ أن يَحرِصُوا على مُصاحَبةِ أبْنائِهم منذ طُفولَتِهم، وتَكوينِ علاقةٍ وطِيدَةٍ معهم، وتَعوِيدِهم على النِّقاشِ والحديث، مما يُكسِبُهم فهما جيِّدًا ومعرفةً عميقَةً بطباعِهم وأفكارِهم واهتماماتِهم، وانطلاقًا من هذه المعرفة، يُمكن للوالِديْنِ مُحاوَرةُ أبنائِهم بشكلٍ جيِّد، ويُسهِّلُ عليهم إقْناعَهم بالأشياءِ الجيدة، وإبعادَهم عَمَّا لا يَنفَعُهم، وكَسْبِ ثِقتِهم والتَّأثِيرِ فيهم.
وجُملَةُ القوْلِ أنَّ الحوارَ نُقطةٌ أساسِيَّةٌ في بِناءِ أسرةٍ مُتماسِكةٍ ومُترابِطة، يَسُودُها التفاهُم والتَّآلُف، ويَغمُرُها الحبُّ والوِئام، كما أنه أفْضلُ سبيلٍ نَكسِبُ من خلالِه ثقةَ أبْنائِنا، ونُوَطِّدُ به علاقَتَنا معهم، مما يَجعلُنا على دِرايةٍ بكلِّ اهتماماتِهم وانشغالاتِهم، ويُمكِّنُنا من تَقديمِ النُّصْحِ والتَّوجِيه لهم في الوقتِ المناسبِ وبالطريقةِ المؤَثِّرة، فاحرِصَا أيُّها الأبويْنِ الكريمين، على غَرْسِ ثقافةِ الحوارِ في أبنائِكم مع نُعُومَة أظافِرِهم، والْتَزِمُوا مِن جهتِكم بِمبادِئِ الحوارِ المثمِرِ معَهم، بعيدًا عن السُّلطَويَّةِ والتَّعنُّت، التي لا تُثمرُ سوى فَجواتٍ بينَكم وبين أبنائِكم.