عندما تُبَشَّرُ الأُسْرَةُ بمولُودٍ جَديدٍ، فإنَّ الفرْحةَ تَعُمُّ جميعَ أفرادِ الأُسْرَةِ، ما عَدَا شخصٍ واحد، إنه المَولودُ الأوَّلُ، الذي يَبْدأُ في الشُّعورِ بأنَّ هناكَ من سيَأخذُ مكانهُ ويستحْوِذُ على نصِيبِهِ من الرِّعايَةِ والاهْتِمامِ، وأنَّه لن يبْقَى كما كانَ مِحوَرَ اهْتِمامِ الوالِدَيْنِ، ومحَطَّ أنْظارِ وَرِعايَةِ الجَميعِ، بلْ سَيُصْبِحُ شخْصاً ثانَوِيا في الأُسْرَةِ، وستنْصَرِفُ الأنْظارُ إلى نَجْمٍ جَديدٍ سيكُونُ هو مَحْبوبَ الجميعِ، وبذلكَ تُزْرعُ أولَى بُذورِ الْغَيْرَةِ بين الأبناءِ، ويبْرُزُ تحَدٍ جديدٌ أمامَ الآباءِ ينْبَغِي علَيهِمُ التَّعامُلُ معهُ بحِكْمةٍ وروية.
ولمُساعَدتِكُمْ في مُواجَهَةِ هذا التحَدِّي، والنَّجاحِ في هذه المُهِمَّةِ العَسيرَةِ، سنُعَرِّفُكُم في هذا المَقالِ على أهَمِّ أسبابِ الغَيرَةِ ودوافِعِها، ثمَّ سَأَخْتِمُ بالحديثِ عنْ طُرُقِ علاجِ الغيرةِ وتَقليلِ آثارها.
أولا: أسْبابُ الغيرةِ لدى الأَطْفالِ:
- المُقارَنَةُ بين الإخْوَةِ: تُعْتَبرُ المُقارَنةُ بين الإخْوةِ، والمُفاضَلَةُ بينهُمْ، من أقوَى دَوافِعِ الغيرةِ ومُثيراتِها، وهذا من الأخْطاءِ الجَسيمَةِ التي يَقعُ فيها الكثيرُ من الآباءِ وأفرادِ الأُسْرةِ؛ حيثُ يفاضِلونَ بين الأطفالِ انطِلاقاً من تَمَيُّزِ بعضهِمْ بمَهاراتٍ وإمْكاناتٍ واهْتِماماتٍ ليْستْ عندَ الآخَرينَ، مِمَّا يدْفعُ الأطْفالَ والإِخوةَ إلى الغَيْرةِ من بعْضِهِم، وقد يتَطَوَّرُ هذا الشُّعورُ إلى الحِقْدِ والكُرْهِ.
- الإِعاقَةُ البدَنيَّةُ: حيثُ ينظُرُ الطِّفْلُ المُعاقُ إلى غيرِهِ بنَوْعٍ من الغَيْرَةِ وعدَمِ الرِّضَا، نظَرا إلى كوْنِه يستَطيعُ القِيام بأمُورٍ لا يستَطيعُ هو إنجَازها.
- منعُ الأطفالِ من التَّعبيرِ عن مشاعِرهِم: فبسَبَبِ المَنْعِ من الكَلاَمِ والتَّعبيرِ، وأمْرِ الأَطْفالِ بالصَّمْتِ وعَدَمِ الحَدِيثِ، يَحْصُلُ لهُمْ كَبْتٌ لِلمَشَاعِرِ السِّلْبِية؛ فقَدْ تكونُ لَدَى ابنكَ مُلاحَظات حَوْلَ تمْيِيزِكَ في المُعامَلَةِ بينهُ وبين إخْوتِهِ، من دونِ أنْ تشْعُر، ولكن نَظَراً لأنَّكَ تمْنَعُهُ من الحَديثِ، فإنَّهُ لا يَسْتطيعُ التَّعبيرَ عن عدَمِ رِضاهُ بهذا التَّمْيِيزِ، وقد يتَطَوَّرُ الوضْعُ إلى حالَةٍ من الغَيْرَةِ والْكُرْهِ الشَّديدِ.
- تحْمِيلُ الأَطْفالِ فوْقَ طاقَتِهِم: حيْثُ يدْفَعُ بعضُ الآباءِ أبْناءَهُم إلى بَذْلِ مَجْهُودٍ مُضاعَفٍ لِيَكونوا مِثْلَ أخيهِم في مُستَوى فهْمِه وذَكائِه، أو نَيْلِ رُتْبَةٍ أعْلَى من زُمَلائهِم في المدرسة، وبسبَبِ هذه الضُّغوطِ، يتَكَوَّنُ لدى الطِّفْلِ شُعورٌ بالْغَيرةِ والغَضَبِ، ويَحْقِدُ على الأطْفالِ الآخَرينَ؛ إذْ يرى أنَّهُ بِسَبَبِهِم يضْطَرُّ إلى القِيامِ بأعْمالٍ تفُوقُ قُدرتَهُ ومُؤَهِّلاَتِهُ.
- أَنانِيَّة الأبَوَيْنِ: لَطَالَمَا قُلْنا بأنَّ الأطْفالَ يَكْتَسِبونَ الكَثِيرَ من طِباعِهِم انطِلاَقاً من تَقْلِيدِهِم للْوالِدَيْنِ،فإذا كان الأَبَوَانِ أو أحدُهُما يَتعامَلُ بأنَانِيةٍ، ويَتَصرَّفُ من مُنْطَلَقِ المَصْلَحَةِ الشَّخْصِية، فإنَّ الأبْناءَ يُقَلِّدونَهُ في ذلك، وقدْ تَتَطَوَّرُ هذه الأَنانِيةُ إلى غَيْرَةٍ بين الأبْناءِ؛ نَظَراً لِحِرْصِ كلٍّ منهُمْ على مَصْلَحَتِهِ الخاصَّةِ.
يمكِنُ اعْتِبارُ هذه الأَسْباب الخَمْسة، أهمَّ العَوامِلِ المُؤَدِّيَةِ إلى ظُهورِ الغَيْرَةِ لَدى الأَطْفَالِ، وهي نَفْسُهَا المَفاتيحُ التي تَكْشِفُ لنا سُبُلَ عِلاجِ الأَنانِيةِ والوِقايَةِ منْها.
ثانيا: علاَجُ الغيرةِ عند الأطفالِ والوِقايَةُ منها:
- تَقَبُّلُ كلُّ طِفلٍ كما هو، وعَدَمُ مُقارَنَتِهِ بغَيْرِه من إخْوتِهِ أو زُمَلائِه، واعْتِبارُه شَخْصا فَريداً في حدِّ ذاتِهِ، دون مُطالَبَتِهِ بأنْ يكونَ مثلَ شَقيقِهِ أو صَديقِهِ أو ابن خالَتِهِ؛ فاللهُ عز وجل قدْ حَبَا كلَّ إنسانٍ بمَواهِبَ لا تَتَوَفَّرُ عندَ غيْرِه، فذلك من قسْمَتِهِ وقَدَرِه، التي يجِبُ علينا الرِّضَا بها، وحمدُه على جميعِ الأَحْوالِ.
- الاِهْتِمامُ بِذَوي الإِعاقاتِ، والتَّعامل مَعَهُم بطريقَةٍ تُظْهرُ لهُم أنَّنا نتَقَبَّلُهُم بشكلٍ كلِّي، ولاَ نَنْظُرُ لهُمْ نَظْرَةَ نَقْصٍ أو ازْدِراءٍ، كما ينْبَغي تَوعِيَتُهُم بِحالَتِهِم، وتعْلِيمُهِم بأنَّ هذه الحَالةَ التي هُمْ عليْها من قضاءِ اللهِ عزَّ وجلَّ، فإن صَبَرُوا ورَضُوا بها سَيكونُ لهمْ جَزاءٌ عَظيمٌ في الآخِرَة، كما يُنَصحُ بالترْكيزِ على بعضِ المَواهِبِ التي قد يَتمَيَّزُ بها أصحابُ الإِعَاقَات، ممَّا يساعِدُهُم على تحْقيقِ الذَّاتِ والثِّقَة في النَّفْسِ.
- إتاحَة فُرْصَةٍ للأَطْفالِ من أجلِ الحَديثِ والتَّعْبيرِ عن مشاعِرهِمْ، والإِفْصاحِ عمَّا يُزْعِجُهُمْ ويُثيرُ غَضَبَهُم، وخاصَّةً فيما يَجْمَعُهُم بإخْوَتِهِم وأَقْرانِهِم، وبهذا الحديثِ والإِفْصاحِ، سيَكْتَشِفُ الأَبَوانِ بَوادِرَ أيِّ شُعورٍ بالغَيْرَةِ والْحِقْدِ بين أبْنائِهِم، ويَسْتَطيعُونَ تلاَفيَ تَطَوُّرِ الوَضْعِ وتأَزُّمِه، ويُحافِظونَ على المَوَدَّةِ والأُلْفَةِ بين أبْنائهِمْ.
- عَدَمُ تحْميلِ الأَبناءِ فوقَ طاقَتِهِم، ومُسايَرَةُ قدُراتِهِم وإمْكاناتِهِم دونَ ضَغْطٍ أو إكْراهٍ، والثَّناءُ علَيْهِم مُقابِلَ المَجْهُودِ الذي يَبْذُلونَهُ، ومكافَأَتُهم على إنْجازاتِهم مَهْما كانَتْ صغيرَةً، فذلِكَ وُسْعُهُم، ولاَ يُكلِّفُ اللهُ نَفْسا إلا وُسْعَها.
- تَعامُلُ الوالِدَيْنِ بِمبدَأِ السَّخاءِ والعَطاءِ، وإيثارِ الغَيْرِ على الذَّاتِ، والمُسَارَعَةُ في نَفْعِ الآخَرينَ وتَقْدِيمِ يدِ الْعَوْنِ لهُم، وبذلِك يَتَعَلَّمُ مِنهُم أبْنَاؤُهُم قِيمَةَ التَّعَاوُنِ والبَذْلِ والإِيثارِ، ومَقْتَ البُخْلِ والأَنانِيَةِ، وتَرْجيحَ مَصْلَحَةِ الجَماعَةِ على مَصْلَحَةِ الذَّاتِ.
وعلى العُمُومِ، فإنَّ أهَمَّ مُنْطَلَقٍ في الوقايَةِ من الغَيْرَةِ بين الأطْفالِ، هو مُعامَلتُهُم بالتًّساوِي وعَدَمَ التَّفْضيلِ والتَّمْيِيزِ بَيْنَهُمْ، ولَنَا في قِصَّةِ يوسُف عليه السَّلام مع إخْوَتِه خَيْرُ دَرْسٍ ومِثال؛ فقدْ كان إِيثارُ سَيِّدَنا يعْقُوبَ ليُوسُف وأخيهِ في المَحَبَّةِ والاهْتِمَامِ، دافِعا إلى الْغَيرةِ والْحِقْدِ من جِهَتِهِم؛ فَلْيَحْرِص الأَبَوانِ على العَدْلِ والْقِسْطِ بينَ أَبْنائِهِم، ولوْ ظاهِراً على الأَقَلِّ، تَفادِيا لِأَسْبَابِ الْغَيْرَةِ والشَّحْناءِ بَيْنَهُمْ.