يُلاحِظُ بعضُ الآباءِ أن أبناءَهم يَتصرَّفون بعُدْوانِيَّةٍ وقَسْوةٍ مع أَشِقَّائِهم وأصدقائِهم، أو حتى مع الأشياءِ المحيطةِ بهم، الأمرُ الذي يُثيرُ قلقَ الآباء، ويَدفَعُهم إلى التَّساؤُلِ عن سَببِ هذه العُدوانِيةِ وكيْفِيَّةِ علاجِها، وذلك ما سَنُحدِّثُكم عنه في هذا المقال، لنُبيِّنَ لكم أنواعَ السلوكِ العُدوانِيِّ وأسْبابِه، ثم كَيفِيَّةَ الوِقايةِ منه أو عِلاجِه.
أولا: أنواعُ السُّلوكِ العُدْوانِي:
علينا أن نُفرِّقَ بين نوعَيْنِ من السُّلوكِ العدْواني؛ أحدُهما يَكونُ ردَّةَ فعلٍ عابِرَة، والآخرُ يكونُ حالةً مرَضيَّة. فالسُّلوكُ العُدوانِيُّ الذي يَكونُ مُجرَّدَ رَدَّةِ فعْل، بسبَبِ تَهديدٍ أو اعْتداءٍ يَتعرَّضُ له الطفل، لا يُمكنُ اعتبارُه أمرًا مُقْلقًا، بل هو إيجابِيٌّ إلى حدٍّ ما، مما يَعنِي أنَّ الطفلَ يُحاوِلُ حمايَةَ نفْسِه والدِّفاعَ عن أشْيائِه، سواءٌ كانت ألْعابًا أو ثِيابًا أو ما شابَه، وكلُّ ما يَنبَغي علينا في مثلِ هذه الحالات، هو مُراقَبةُ الأطفال، واجتِنابُ تَطوُّرِ ردَّةِ الفعْلِ الغاضِبةِ إلى سُلوكٍ مُؤْذٍ للطَّرفِ الثاني.
أما الذي يَعنِينَا في هذا الصَّدَد، فهو السلوكُ العُدوانِيُّ المرَضِيُّ؛ حيثُ نجدُ بعضَ الأطفالِ يَميلونَ إلى العدْوانِيَّةِ في سلوكِهم وتَصرُّفاتِهم من دونِ أيِّ سبَب، وقد يُمارِسونَ هذه العُدوانِيةَ على الأشْخاصِ أو الحَيوانات، أو الأشْياءِ المحِيطَةِ بِهم، بل وحتى معَ ألْعابِهم وأغْراضِهم الخاصَّة، فما هيَ أسبابُ هذه العُدْوانيَّةِ المرَضِيَّة؟
ثانيا: أسبابُ السُّلوكِ العُدْواني:
الأصلُ في الأطفالِ أنهم وَدُودُون وطيِّبُون، يَميلُونَ إلى التَّسامُحِ والرَّحمَة، ويَخافُون من الظُّلمِ والاعْتِداء، ولكنَّ بعضَ المؤُثِّراتِ الاجْتماعِيةِ والنَّفسيَّة، هي التي تُوَلِّدُ هذا السُّلوكَ العدْوانيَّ لدى كثيرٍ من الأبْناء، ومن أهمِّ هذه العَوامِلِ المؤدِّيَّةِ إلى العُدوانِيَّةِ نَذْكرُ ما يلي:
- الشُّعورُ بالإِحْباطِ والفَشَل:
إنَّ الفَشلَ وما يُصاحِبُه مِن شُعورٍ بالإِحْباطِ والهَزيمَة، قد يَجْعلُ الطِّفلَ ناقِمًا على نَفسِه وعلى العالِمِ من حَوْلِه، وحاقِدًا حتى على والِديْه وأقْرَبِ الناسِ إليه، وخاصةً إن كان يَتلقَّى منه تأنِيبًا وتَوْبِيخًا على فَشَلِه ورُسُوبِه، وهُنا يَتفَجَّرُ ذلك الحِقْدُ والسَّخَطُ على شَكلِ غَضبٍ ورَغْبَةٍ في الضَّربِ والتَّحطِيم، من أجْلِ التَّنفِيسِ عن مَشاعِرِ الحِقْدِ والإحْباط.
- الحُصُولُ على الاهْتِمام:
كما قد تَكونُ قِلَّةُ الاهتِمامِ والتَّقدِير، سببًا من أسْبابِ هذا السُّلوكِ العدْوانِي؛ حيث يَجِدُ الطِّفلُ نفْسَه في وَسَطِ عائِلةٍ لا تَهتَمُّ به ولا تَشعُرُ بوُجُودِه إلا في حالةِ الصُّراخِ والتَّصرُّفِ بعُدْوانِيَّة، ويُحسُّ بأنَّه مَرفُوضٌ اجتِماعِيًّا، وخاصَةً إنْ كان يَتِمُّ إقْصاؤُه في البيْت والمدْرَسَة، وتَفْضِيلِ غيرِه من زُملائِه أو إخْوَتِه عليه، فَغايَةُ الطفلِ في هذه الحالَةِ هي لَفْتُ أنْظارِ والديْه ومُدَرِّسِيه إليه، وإِثْباتُ وجودِه لهم، والاسْتِحْواذِ على اهتِمامِهم لِلَحظات، حتى وإن كان ذلك الاهْتِمامُ الذي يَحصُلُ عليه عِبارةً عن ضرْبٍ وصُراخٍ وتَوَعُّد.
- التَّقلِيدُ والمحَاكَاة:
إنَّ جزْءًا كبيرًا من شخْصِيَّةِ الطفلِ يَتكوَّنُ عبرَ تقليدِ والديْه وعائلَتِه المقرَّبَة، ومُحاكاةِ ما يَراهُ على وَسائِلِ الإعلامِ وشَبكاتِ التَّواصُلِ والألعابِ الإِلِكتُرونِيَّة، فالكثيرُ من الآباءِ يَتصرَّفُون بِنوْعٍ من العُدوانِية، ويَسلُكونَ سَبِيلِ العُنْفِ والصُّراخِ في العَديدِ من المواقِف، كما أنَّ مُعظَمَ ما يَرُوجُ على مِنصَّاتِ التَّواصلِ وَوَسائِلِ الإعْلام، يُقدِّمُ مُحتَوًى عَنيفًا ومُؤلما، أمَّا الألْعابُ الإِلِكتُرونِيةُ فإنَّ أغْلَبَها يَعتَمدُ على العُنْفِ والأسْلِحَةِ والقِتال، ويُشجِّعُ على التَّحْطيمِ وانْعدامِ الرَّحمَة، ويُصوِّرُ عالما لا يَفُوزُ فيه إلا مَنْطِقُ العُنْفِ ومَبْدأُ القوَّة، وفي ظِلِّ ذلك كلِّه تَتكوَّنُ لدى الأطْفالِ نَزعةٌ عُدْوانِيَّةٌ تَنْمُو بِمُرورِ الوقْت.
- تَعْزيزُ السُّلوكِ العُدْوانِي:
تَعملُ بعضُ الأسرِ على تَعْزيزِ السُّلوكِ العُدْوانيِّ عند أطْفالِها بِوَعْيٍ أو بِدُونِ وَعْي، وذلك من خِلالِ حَثِّ الطفلِ على الانْتقامِ مِمَّن ظَلَمَه، وانْتِزاعِ حَقِّه مِنَ الغيْرِ بالعُنْفِ والقَوَّة، وتَغْيِيبِ مبْدَأِ الرَّحْمةِ والتَّسامُح، ورَبْطِ القَسوَةِ بقِيمةِ الشَّجاعَة، ومِن جانِبٍ آخَر، فإنَّ عدَمَ التَّواصُلِ مع الأبْناء، وحِرْمانَهم مِن فُرْصةٍ للتَّعبِيرِ عن مَشاعِرِهم وأَحاسِيسِهم، قد يَدْفَعُهم إلى الانْزِواءِ والانْطِواءِ على الذَّات، ولا يَجدُونَ لُغةً يُعبِّرون بها عن ذاتِهم غيرَ العُنْفِ والصَّراخِ والتَّحْطِيم، وبمثلِ هذه التَّصرُّفاتِ، تَعمَلُ الأسْرَةُ على تَعزيزِ وتَرْسيخِ السُّلوكِ العُدْوانِيِّ عندَ الأبْناء.
ثالثا: الوِقايَةُ من العُدْوانِيَّةِ عِندَ الأطفالِ وعِلاجُها:
بعدَ مَعْرِفَتِنا لأهمِّ مُسبِّباتِ السُّلوكِ العُدوانِيِّ لدَى الأطفالِ ودَوافِعِه، نَنْتقِلُ بكم الآن إلى بَيانِ سُبُلِ الوِقايَةِ من هذا السُّلوك، مع مُحاوَلَةِ تَلمُّسِ بعضِ الطُّرُقِ المفيدَةِ في عِلاجِها، وهي في عُمومِها تَدُورُ حوْلَ تَفادِي تِلْكَ العَوامِلِ المسبِّبةِ للْعُدْوانِيَّة، ولكنَّنا نُفصِّلُ فيها القَوْلَ على الشَّكلِ التالي:
- لا تَكُنْ عُدوانِيًّا حتى لا يكونَ أطْفالُك عُدْوانِيِّين؛ لقد تَحدَّثْنا عن أنَّ الأطفالَ يَكتَسِبُون كثيرًا من صِفاتِهم عن طريقِ تَقليدِ آبائِهم، فاجْتَنِب الصُّراخَ أمامَ أطْفالِك، وإظْهارَ غَضَبِك حالةَ وُجُودِهم، وأَبْرِزْ لهم جَوانِبَ الرَّحمَةِ والحِلْمِ في سُلوكِك، وعلِّمْهم أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان يَقول: “ما كانَ الرِّفْقُ في شيْءٍ إلَّا زَانَه (أيْ جَعلَه جميلا) وما نُزِعَ من شيْءٍ إلَّا شَانَه (أي جَعَلَه قَبِيحا)”.
- التَّحْفيزُ والمكافأَةُ بَدَلَ الضَّرْبِ والتَّعنِيف؛ لأن دافِعَ الحُصولِ على المكافأةِ، ولَذَّةَ سماعِ ثَناءِ الوالدَيْن، أقْوَى من دافِعِ الخَوْفِ من الضَّرْبِ والعِقاب، الذي يُعْطِي في الغالِبِ نَتائِجَ عَكْسيَّة، ويَجعَلُ الطفلَ يَميلُ بدَوْرِه إلى العُنْفِ والصُّراخِ كُلَّما فَشِلَ في الحُصولِ على ما يَرْغَبُ به، فلْيَحْرِص الآباءُ على دَفْعِ أبْنائِهم نَحْوَ السُّلوكِ الإيجابيِّ عن طَريقِ تَحفِيزِهم وتَشْجيعِهم بالمكافآت.
- غَرْسُ هِواياتٍ بَديلَة؛ فقد اكتَشَفَ الخُبراءُ بأنَّ أنْجَعَ وَسِيلَةٍ للتَّخلُّصِ منَ السُّلوكِياتِ السلبية، هي زَرْعُ عاداتٍ وسُلوكِياتٍ أخُرى بَدِيلة، فإن كانَ طِفْلُك يُعانِي من العُدوانِيَّةِ والعُنْفِ في تَصرُفاتِه، فَحاوِلْ تَعلِيمَهُ عاداتٍ وهِواياتٍ يُفرِّغُ فيها طاقَتَه السَّلبيَّة، ويَتخلَّصُ بواسِطَتِها من العُدوانِيَّة، ويَنبَغِي أن يَكونَ هذا المبدْأُ في العِلاجِ مَصْحوبًا بمسألةٍ في غايَةِ الأهمِّيَّة، وهي عَدَمُ التَّركيزِ على السُّلوك العُدواني؛ فلا تَجْعلْ هَدَفَك أو هَدَفَ طِفلك هو التَّخلُّصَ من السُّلوكِ العُدْواني، بل اصْرِفْ انتِباهَه عن ذلك، واجْعَلْ هَدَفَه إتْقانَ رِياضةٍ مُعيَّنة، أو تَعلُّمَ لُغةٍ جديدة.
- الحِوارُ الأسَريُّ البَناءُ والمناقَشاتُ الهادِئة؛ فقد يَكونُ الحديثُ مع الأبناء، وإشْراكُهم في المناقَشاتِ الأسريَّة، وإِتاحَةَ الفرْصَةِ لهم للتَّعبِيرِ عن آرائِهم وذَواتِهم، واحِدًا من أفْضلِ الطُّرُقِ لتَفادِي العُدوانِيَّةِ عند الأطفال؛ لكونه يُحققُ الكثيرَ من الغاياتِ والأهْداف؛ فهو يُشْعرُهم بالأهَمِّيَّةِ وتَقْديرِ الذَّات، كما أنَّه يُساعِدُ على اكْتِشافِ التَّصوُّراتِ الخاطِئةَ لديْهم، وتَصحِيحِها عن طريقِ الحِوارِ والإقْناع، بالإضافةِ إلى كوْنِه يُكسِبُهم الذَّكاءَ العاطِفيَّ والاجتماعي، الذي يُمكِّنُهم من إدارةِ المشاعِرِ والتَّحكُّمِ في العَواطِف، ويُسهِّلُ عليهم إقامَةَ علاقاتٍ ناجِحةٍ مع الآخرين.
وبِمثْلِ هذه الخُطواتِ التَّربَويَّة، يُمكِنُنا تَجنُّبُ وقُوعِ أطْفالِنا في مُستَنْقَعِ العُدوانِيَّة، وإِخْراجِهم منها حالَ وُقُوعِهم فيها، كما أنَّها سَتُكْسِبُهم مَهاراتٍ تُساعِدُهم على الَّنجاحِ في حَياِتهم الشَّخصيَّةِ والاجتِماعيَّة، وتُمكِّنُنا من بِناءِ أسْرةٍ مُتماسِكَة، ومُجْتَمعٍ مُتراحِم.